ان حالة الارباك السياسي التي تشهدها مصر وتونس وحالة الحماس الشديد الذي يتملّك الثوار المسلحون في ليبيا وكذلك سائر الشعوب العربية الثائرة، دفعني لأن اقلب صفحات الماضي واستعين بأفكار ورؤى أحد ابرز رجال الفكر والثقافة والثورة والاصلاح ممن لم يتوان في وضع يده على الجراح متحملاً في ذلك كل الوان الأذى والمعاناة في سبيل التشخيص الصحيح والدقيق للحالة المرضية التي تعاني منها الامة ليُصار الى العلاج الناجع من التخلف والحرمان والظلم.

لدينا (الثورة) ولدى الغرب السياسة والاقتصاد

 

من التنبؤات الثورية للمرجع الشيرازي الراحل في ذكراه العاشرة

 

محمد علي جواد تقي/مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث

 

عندما اندلعت أول شرارة لانتفاضة جماهيرية في البلاد العربية، وتحولت الجماهير الى سيل هادر جرف أعتى الحكام، أجمع معظم الكتاب والمثقفين العرب على ان الشعوب هي صاحبة الكلمة الفصل في تقرير المصير، وهذه النظرة مازالت قائمة وتزداد رسوخاً بعد وصول قطعة (الدومينو) الثالثة الى ثالث زعيم عربي يسقط بفعل الانتفاضة الجماهيرية فيما ينتظر اليمن الطريقة التي سيسقط بها علي عبد الله صالح الذي يقف اليوم برجل واحدة على الارض والثانية متدلية الى القبر.

لكن الى جانب كل هذا يتساءل الكثير عن الصفحة الاخرى في حياة الشعوب التي أطاحت بحكامها المستبدين، وهل حققت طموحاتها وغاياتها من وراء التغييرات الكبيرة التي احدثتها في انظمة الحكم؟

ان حالة الارباك السياسي التي تشهدها مصر وتونس وحالة الحماس الشديد الذي يتملّك الثوار المسلحون في ليبيا وكذلك سائر الشعوب العربية الثائرة، دفعني لأن اقلب صفحات الماضي واستعين بأفكار ورؤى أحد ابرز رجال الفكر والثقافة والثورة والاصلاح ممن لم يتوان في وضع يده على الجراح متحملاً في ذلك كل الوان الأذى والمعاناة في سبيل التشخيص الصحيح والدقيق للحالة المرضية التي تعاني منها الامة ليُصار الى العلاج الناجع من التخلف والحرمان والظلم.

انه المرجع الديني الراحل الامام السيد محمد الحسيني الشيرازي، وقد ارتأيت ان اقتبس فكرة المقال من محاضرة ألقاها في الكويت عام 1978 حول السبب في عدم انتصار الثورات في البلاد العربية والاسلامية. ويشير الى انه يكمن في الفهم التجزيئي للاسلام واليوم نلاحظ جميعاً كيف ان الشعوب الثائرة تبحث في الاسلام ما ينقذها من تراكمات الديكتاتورية والظلم طوال الاربعين عاماً الماضية.

الى اين تسير الثورة المنتصرة؟

في عقد الستينات والسبعينات من القرن الماضي عملت النخبة المثقفة من علماء دين ومفكرين على بعث الروح الدينية في نفوس المسلمين للاحتفاظ بالموقع على ساحة الصراع على الاقل وتقليل احتمالات الهزيمة امام التحديات الماحقة من جانب الشرق الماركسي والغرب الرأسمالي وما كانا يحملانه من نماذج للحياة الاجتماعية والسياسية على شكل ثقافات تزيد الفاصلة بين المسلمين وبين اسلامهم.

يقول المرجع الراحل الشيرازي: ان الاخوان المسلمين في مصر وحزب التحرير في الاردن والجماعة الاسلامية في باكستان والحركة الاسلامية في ايران لم تألُ جهداً في تعريف الناس بالاسلام في جانبه العقائدي والتشريعي والاحكام الاسلامية والقيم الاخلاقية والتشجيع على الممارسات الدينية من قبيل تشييد المساجد والحسينيات والمكتبات ومحاربة محال بيع الخمور والملاهي وكل مظاهر الفساد الاجتماعي. كل ذلك حصل وتلك النخبة المثقفة تتلقى التأييد والتفاعل من لدن الجماهير، وقد تركت كل تلكم الاعمال والجهود اثرها على الواقع الاجتماعي في ايران ومصر والاردن وباكستان وغيرها من البلاد.

يقول المرجع الراحل ان احد علماء الدين تمكن من تحويل ملهى ليلي في احد العواصم الاسلامية وهو بين (14) ألف ملهى ليلي! الى مكتبة عامة، ويشيد سماحته بهذه الخطوة ويصفها بـ(العظيمة)، لكن هنالك مشكلة يشخصها المرجع الراحل تكمن في توقف تلك النخبة الاسلامية المثقفة عند هذه المرحلة لفترة من الزمن، بحيث بات من السهل ملاحظة تراجع الثقافة الدينية في المجتمعات الاسلامية لصالح الثقافة الغربية او الشرقية بفضل وسائل الاتصال والنشر المنطلقة بقوة اواسط القرن الماضي، وقد لاحظ المرجع الشيرازي ان النخبة الاسلامية المثقفة عقدت العزم على تخطّي المرحلة الاولى لإعطاء الحديث عن الدين بعداً جديداً يجعله اكثر رسوخاً في النفوس، فكانت المبادرات لإصدار المجلات والصحف وتشييد المطابع وضخّ مجموعة لا بأس بها من المؤلفات الدينية الى الساحة الثقافية.

على مدى اربعة عقود من الزمن ونحن نشهد آثار التحرك والتبليغ والتثقيف في اوساط المجتمعات الاسلامية، فقد زادت اعداد المصلين في الجوامع وانتشرت موائد الافطار الرمضانية واشتدت المطالبة بتطبيق الشريعة الاسلامية، حتى طرقت ابواب الحكام فكانت المواكبة والمماشاة مع الموجة الجديدة، فظهرت وعود ومواثيق من هذا الرئيس وذاك بتطبيق الشريعة الاسلامية، ليس هذا في البلاد الاسلامية وحسب، انما تطورنا –عرضاً وليس طولاً- على المساحة الجغرافية فوصلت مظاهر الدين الى البلاد الغربية، فليس فقط انتشرت مطاعم واسواق (الحلال) وفرض الحجاب صورته على الحياة الغربية، بل نسمع اليوم بدخول النقاب في ساحة التحدي.

ولابد من القول ان المظاهر الدينية سيدة الموقف حالياً في شوارع الثورة العربية. فلم يلحظ أحد ابداً تظاهرة في مصر او اليمن أو تونس تخلو من إمرأة محجبة، إن لم نقل ان الحضور النسوي في الثورات العربية كان على الأغلب مكسواً بالحجاب واحياناً النقاب، ثم انتصرت بعض هذه الثورات فيما ما تزال الاخرى تنتظر، ورأينا كيف يصطف الثوار المنتصرون في مصر صفوفاً متراصة وبأعداد هائلة للصلاة جماعة في ميدان التحرير ثم يأتي دور اخوانهم في ليبيا ليقدموا نفس المشهد للعالم في عاصمتهم طرابلس.

لكن هل هذا كل شيء في هذه الثورات؟ وهل تسير الثورة الثائرة والمنتصرة على طريق تحقيق طموحاتها وغاياتها من الثورة وقد ضحت في هذا السبيل بخيرة شبابها وتحملت معاناة التحدي والصمود امام طغاة وجبابرة لم يحلموا بالسقوط قط؟

الشعبان في مصر وتونس كانا يطمحان بتحول ولو تدريجي في حياتهما من خلال اجتثاث الفساد المالي والاداري وتحقيق العدل والمساواة بالممكن، لكن مجرى الاحداث يبين وجود مخاوف عند الناس من احتمال ضياع جهودهم وتضحياتهم. والسبب في ذلك يعود الى ان المرحلة الثانية او الركن الثاني من التحرك الاسلامي لم تكن تشفع لوحده لانتشال الشعوب الاسلامية من الحرمان والتخلف والظلم، وكان مسار الثقافة والسلوك والفكر طوال السنوات الماضية بيد الانظمة الحاكمة وما تمتلكه من جحافل الكتاب المرتزقة ووعاظ السلاطين والاموال الطائلة.

هذا بالتحديد ما بحثه المرجع الشيرازي الراحل قبل اكثر من ثلاثين عاماً عندما تحدث عن الخطوة الثالثة التي لم يصلها أحد وهي (الوعي والعمل)، يقول في محاضرته: “ان المسلمين لا يفهمون الحياة – في ظل الاسلام- وإن فهموا شيئاً فانه يعود الى عهد الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله، حيث المسجد والمدرسة والتعاليم الدينية، وإن خطوا خطوة أخرى فتكون في الكتب والاذاعات والصحف والمنابر…”، يضيف ايضاً: “إن التمسك بالبعد الواحد وهو إشعال فتيل الثورات هو الخطأ الكبير الذي ارتكبته الحركات الاسلامية في مصر والاردن وايران قبل حوالي ثلاثين عاماً”، هذه الثورات اندلعت واحدثت اصداءً وآثاراً على صعيد الواقع لكن ما لبثت ان خمدت شعلتها وتلاشت من الساحة، والسبب هو ان المسلمين او النخبة (المتدينون) ومعهم الجماهير لا تعرف ما تصنع بهذه الثورة وما يليها من تغييرات كبيرة. ثم ان سماحته يؤكد ويقر على ان الثورة كـ (القلب) “لكن هل ينفع القلب وحده من دون سائر اعضاء البدن من اطراف وكبد و رئتان ومخ و… غيره كثير؟).

وحتى لا نجانب الحقيقة نقول: ان الانسان الذي يدعو الاسلام للتفقه في الدين واكتساب العلوم والمعارف والاخلاق، فانه يعطيه الحق بأن يشبع رغباته الجنسية من خلال الطريق الصحيح، وكما هو بحاجة الى المكتبة والمختبر، فانه بحاجة الى المتنزه ودار السينما والمسرح والمرسم وكل المنافذ التي تفتح أمامه آفاق الابداع الذهني والفكري، وكما هو مطالب بالحفاظ على كيان الاسلام وعزّته، فمن حقه البحث عن سبل العيش الكريم في ظل اقتصاد مزدهر وحصين وكرامة وعزّة في ظل نظام سياسي عادل. حيث لا فقر ولا كبت ولاظلم ولا انحراف. كل ذلك يمكن البحث عنه في النظام الاسلامي.

سماحة المرجع الشيرازي يدعونا لنشر الوعي مع التطبيق والعمل، وإلا فان الوعي والمعرفة وحدها لن تجدي نفعاً، لكن السؤال العريض والكبير؛ أيّ وعي تحتاجه الامة والجماهير العربية والاسلامية الثائرة اليوم؟

لقد ابدى الكثير من الكتاب والمثقفين العرب استغرابهم من تجاوز الشباب العربي كل مظاهر الميوعة ونظموا تظاهرات عارمة قبضتهم كانت فيها حديدية أطاحت بأعتى الحكام. قد يقول البعض ان الاوضاع الاقتصادية للبلد او الاوضاع المعيشية للمواطن هي الدوافع وراء شحذ الهمم للثورة، وهذا احد الدوافع وليس كلها، فالوعي السياسي والاقتصادي كان له دور الحسم. هذا الوعي هو الذي اعطى الثقة للمصريين والتونسيين والليبيين وغيرهم بان يزعزعوا اركان حكامهم ويمسكون بهم من تلابيبهم ويرموا بهم في مزبلة التاريخ.

وهذا تحديداً ما نبّه اليه مبكراً سماحة المرجع الشيرازي الراحل، وبالحقيقة يمكننا عدّ هذا بمنزلة النبوءة العظيمة في عالم السياسة والحكم، فقد قارن سماحته بين الهند وباكستان، وقال انهما كانا بلداً واحداً وشعباً واحداً في ظل الاستعمار البريطاني، لكن الهند قامت بجهود (غاندي) الذي قال عنه سماحته: “انه عرف ان الحكم ليس مجرد مفهوم، فقام بتربية اربعة ملايين انسان ثم دفعهم الى الحكم لتحقيق الديمقراطية والشورى…”، ثم يذكر بالمقابل التجربة الباكستانية التي قادها (محمد علي جناح)، وقال انها منذ استقلالها عام 1948 تتوالى عليها الانقلابات العسكرية، بينما لم يحصل انقلاب عسكري واحد في الهند.

إن اللوم يقع – كما يقول المرجع الراحل- على النخبة المثقفة التي أتخمت المكتبات بالمؤلفات المتنوعة إلا من كتب تحمل وعياً سياسياً او اقتصادياً، وتحدث الناس والقراء برؤية الاسلام السياسية والاقتصادية وايضاً في سائر شؤون الحياة. وهذا يفسر لنا سبب اعتماد بلادنا في الانتقال من الديكتاتورية الى الحرية والبناء الجديد على العالم الغربي، لان لديه التجربة الديمقراطية ولديه الارصدة من الذهب والعملة الصعبة كما لديه قوة فرض الامن والاستقرار بفضل آلته العسكرية القاهرة.

والمثير حقاً في اوضاع بلادنا التي تحررت حديثاً من ربقة الديكتاتورية انها تتلقى الدعم السياسي والعسكري والاقتصادي من البلاد غير الاسلامية، بينما لا تجد شيئاً من البلاد الاسلامية التي إن لم تملك شيئاً من التجارب السياسية فانها تمتلك الثروة الهائلة وايضاً القوة العسكرية التي طالما تبجحت بها، وكان بإمكانها مساعدتها في اطار جامعة الدول العربية او منظمة مؤتمر الدول الاسلامية قبل ان تتدخل الدول الاجنبية.

لكني أجزم ان حال الحكام العرب وغير العرب ليس بأفضل من شعوبها، فهي ايضاً لا طاقة لها باستشراف المستقبل وتخشى من أي عمل ربما يؤثر على وضعها السياسي داخلياً وخارجياً. لذا نجدها تترك الامر لمن بيدهم الحل والعقد! وهذه ايضاً جاءت ضمن تنبؤات المرجع الشيرازي الراحل عندما قال: “ان لدى الغرب والشرق نظام سياسي واقتصادي متكاملين، أما نحن لدينا الثورة ونفشل فيها”. ومن نافلة القول الاستشهاد بما قاله أول رئيس جمهورية للجزائر المستقلة عن الاستعمار الفرنسي (أحمد بن بلّا) الذي قال “ان سكان بيوت الصفيح المحيطة بالعاصمة الجزائر هم ضحايا حرب التحرير…”!!

كل ذلك لا يعني بأي حال من الاحوال التخلّي عن الثورة والانقلاب على الوضع الفاسد، إنما لابد من امتلاكنا الأدوات التي تضمن ديمومة الانتصار والحفاظ المكاسب، كما الجيش الذي يمتلك المشاة والآليات المدرعة فهي تضرب وتتقدم وتحتل لكن ليس لديها قوة جوية تضرب في عمق العدو لكسر شوكته حتى لا يقوى على مهاجمته ثانية. وإلا ما فائدة ان الشعوب المظلومة على حق مائة بالمائة، وما تأثير ان تكون الانظمة الديكتاتورية على باطل؟ والتاريخ شاهد على هذه الحقيقة.

 مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث

 http://shrsc.com/index.htm